recent
أخبار ساخنة

نجحنا في التعليم عن بعد.. فأين التربية؟



نجحنا في التعليم عن بعد.. فأين التربية؟
*أحمد عبد الله

دهمت العالم جائحة كورونا، وكان لها من القوة أن أجبرت العالم على سلسلة تغيرات آنية وأخرى متوقعة تشمل مختلف الأصعدة، الاقتصاد والسياسة والطب، وكذلك مجالات التعليم، حتى لقد فرضت هذه الجائحة -عربيا على الأقل- طرقا تعليمية جديدة، أنتجت طرقا جديدة لتلقي المعلومة أيضا، حيث شكل التعليم الإلكتروني ظاهرة أكاديمية نجمت عن وجود هذه الجائحة.

ووجد التعليم الإلكتروني الكثير من المؤيدين، حيث إن كثيرا من النداءات المؤيدة للتحول الرقمي في العملية التعليمية، قد لقي تأييدا، وذلك لمواكبة التطور الزمني والتكنولوجي، وكذلك لأن الوسيط التكنولوجي بكامل منصاته أصبح مستودعا يضم الكثير من المعارف والعلوم، فوجب على الجميع الاستفادة منه في الصناعة الأكاديمية.
وشكلت الجائحة فرصة كبرى لإعادة هذه النداءات من جديد حتى لا تتوقف عملية التحصيل الأكاديمي.

وتباين الوطن العربي في تطبيق التعليم الإلكتروني سواء من حيث الجاهزية التقنية، أو من خلال الإيمان بضرورة التعليم الإلكتروني من حيث المبدأ، أو بالذين كانوا يكتفون بالحديث فقط عن ضرورته مع تطبيقه بشكل مشوه بين حين وآخر.

ولكن ما تتفق عليه الأغلبية على مستوى الوطن العربي، هو أن تطبيق التعليم الإلكتروني كان "مفاجئا" لأولياء الأمور على الأقل، الذين يعتبرون هم وأبناؤهم الفئة المستهدفة في عملية التعليم ككل.

ماذا عن التربية؟

لم يتحدد لهذه الجائحة موعد زمني محدد، فإن طالت مدتها أو قصرت، فإننا سنجد أن التعليم الإلكتروني بدأ يأخذ مساحة أكبر من مرحلة ما قبل الجائحة، فأين ستكون التربية في عملية التعليم والتعلم؟

إن المدرسة ببعدها المكاني والاعتباري، تأخذ حيزا تربويا كبيرا في حياة الأبناء، فهي المكان الذي يتعامل فيه الطفل مع أقران يشابهونه في العمر والاهتمامات والثقافة والسلوكيات، وكل هذه عوامل مؤثرة وصانعة في شخصية الطفل، إضافة إلى تعامل الطفل مع المعلم كمصدر للمعلومة أو ميسر للوصول لها، كل هذا يترك أثره في شخصية الطفل.

بالنظر إلى لغة الأرقام، فإن الطفل الأردني -على سبيل المثال يقضي ما يصل إلى ألف ساعة سنويا في المدرسة، وهذا الرقم قد لا يكون متاحا لأي مكان آخر، لذا فمن الطبيعي أن تكون المدرسة عاملا مؤثرا في حياة الطفل، ففيها يتعلم كيف يكوّن الصداقات، وكيف يتعامل مع من يتنمرون عليه، وكيف يتحكم برغبته في التنمر، وفيها يتعلم كيف يكون منقادا لقانون مدرسي يضبط حركته العشوائية، وفيها يتعلم كيف ينمي هذه القدرات.

جميع ما سبق أمور مدرسية غير متاحة في المنزل، وجزء كبير منها لا يعتبر من الوظائف التي على المنزل أن يؤديها ابتداء، فلو سلمنا بأن التعليم الإلكتروني هو البديل المنطقي للتعليم العام، فأين التربية؟

إجابة عن التساؤل الذي يدور في ذهن القارئ بأن ما ورد أعلاه قد لا تفعله المدرسة، أقول: إن الأدوار المطلوبة من المدرسة تختلف عن مقدار ما يتم تطبيقه، وهذا لا يعود لخطأ المدرسة نفسها، إنما للنظم التعليمية القائمة ومقدار مرونتها واهتمامها في أن تكون المدرسة محضنا تربويا بالمعنى الشمولي، وهذا لا يعني أن نلغي المدرسة ككل لأنها لم تقم بدورها.

التربية تجربة إنسانية

التربية عملية إنسانية تتمازج مع مختلف العناصر الأخرى على اختلافها، فهي متمازجة مع الأبوة والأمومة، فقد نجد آباء وأمهات يقدمون الرعاية للأبناء دون التربية.

ونجد مساجد ومعابد تكون مكانا لأداء المناسك فقط، بشكل مجرد عن كل ما يتعلق بالتربية، وهذا الأمر ينطبق برمته على المدرسة.

ولأن التربية تجربة إنسانية، تتفاعل فيها قيم ومعتقدات وممارسات خاطئة وأخرى صحيحة، كان لا بد للتربية أن تحافظ على بعدها الإنساني المنساب عبر تصرفات ومشاعر وإيماءات، وقوائم افعل ولا تفعل، ومحطة التعليم الأكاديمي من أهم المحطات التي إن أُحسن مزج التربية بها، وجدنا نتاجا تربويا على الجيل كله.

لم تكن النداءات الحديثة في تغيير طرق التعليم من التقليدية إلى التفاعلية، إلا واحدة من نداءات إضافة البعد التربوي على العملية الأكاديمية، فالتعليم التفاعلي، يتيح للطلبة التفكير بحرية، ويتيح للمعلم مراقبة هذا التفكير، ويتيح للطلبة لعب أدوار قيادية، ويتيح للمعلم مراقبة هذه الأدوار، ويتيح للطلبة تغييرا في أدوارهم ليأخذوا هم الدور القيادي في عملية التعلم، ويتيح للمعلم التقييم والتقويم، وتوجيه التفكير والتصرفات.

هذه المفردات "مراقبة، وتوجيه، وتقويم" للأفكار والتصرفات، كلها لها أبعاد تربوية كبيرة ومؤثرة في حياة الأطفال.

علينا أن نصل لصياغة تربوية تعليمية متمازجة، لا يتم إقصاء التربية كليا في عملية التعليم تحت مبرر "التربية على الأهل ويجب أن يأخذوا دورهم فيها"، فهذه فكرة حالمة جدا، حيث إن الأهل لهم أدوار وظيفية مهنية في حياتهم يقومون بها، إضافة إلى أن الأهل لا يمكنهم القيام بـ"كل" مفردات التربية وليس مطلوبا منهم هذا.
إن التربية وسيلة لإيصال الفرد إلى أقصى ما يمكن من درجات الكمال الروحي والبدني والمهاري والمعرفي، وفق الشروط الاجتماعية التي ينتمي إليها.

والتعليم هو العملية التي تحدث تغييرا عميقا ودائما في تفكير الإنسان وقدرته على القيام بالأشياء.

من هذين المنطلقين، نحتاج لتوازن كبير بين التربية والتعليم من حيث الكمية والنوعية، ونحتاج لنظم تعمل على التمازج الدقيق بينهما، ليكون الإنسان لدينا نتاج تمازج متوازن.

إن النتاج الأحادي متوفر بكثرة، فإننا نرى الإنسان حينما يكون متعلما فقط، دون نتاج تربوي أو بنتاج تربوي سيئ، ماذا ستكون النتيجة على المجتمعات ككل، فكثير من العنصرية، والاحتقار، والشعور بالاستعلاء وما ينتج عن كل هذا من تصرفات وقوانين ونظم، ستؤدي إلى دمار كبير على البشرية كلها، فالتربية هي واحدة من ضمانات احترام الإنسان لأخيه الإنسان.


____________
* مستشار تعليمي من الأردن

المصدر : الجزيرة


google-playkhamsatmostaqltradent